معالم أدبية في الأدلة السياحية

كتب هذا المقال لنشرة «سياق» التي تصدرها الجمعية السعودية للأدب المقارن ونشر في العدد السابع عشر بتاريخ ٥ يونيو ٢٠٢٤ ويمكن قراءته على موقع النشرة من هنا.

في الجزء الشرقي من مدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية يمكن للمرء زيارة منزل من ثلاثة طوابق وقبو يعتبر جزءا من التراث التاريخي للمدينة وللدولة، ومقصدا لنوع خاص من السياح والزائرين. كان الكاتب الأمريكي إدغار آلن پو قد تنقل في منازل كثيرة داخل أمريكا، بما في ذلك فيلادلفيا نفسها، ولكن هذا المنزل الوحيد من منازله في فيلادلفيا الذي ما زال قائما إلى اليوم، والأهم من ذلك أنه البيت الذي شهد ذروة إنتاج الكاتب، حيث كتب ونشر أشهر قصصه أثناء إقامته فيه عام ١٨٤٣م. يحتفي الموقع بموهبة پو الاستثنائية وبإنتاجه الأدبي المؤثر، غير أن المنزل حين يزوره الزائر يجده متواضعا، لا تحوي غرفه سوى قليل من الأشياء والمواد المعروضة، ولولا بعض الخدمات المساندة للمنزل، وأهمها متجر يبيع كتبا وتذكارات وبطاقات بريدية، لما قضّى الزائر في المكان ربع ساعة، وربما أحبطت توقعاته على جدران المنزل القديمة الصامتة.

إن كان الأمر كذلك فما الذي يجعل سلطات المدينة تهتم بهذا المنزل، وما الذي يبرر تعيينه موقعا تاريخيا وطنيا؟ يحمل منزل پو قيمة ثقافية كبرى، فتركة الكاتب الأدبية حجر أساس في المشهد الأدبي الأمريكي، بل إن تأثيرها قد تجاوز الحدود وانتشر إلى حدّ أنه لا يمكن تخيّل شكل القصة القصيرة والخيال العلمي على سبيل المثال من دون تذكّر پو ودوره الريادي في هذين الجنسين الأدبيين. وهكذا تصبح زيارة المنزل بمثابة صلة يقيمها القارئ الذي كان قد طالع پو في صفحات الكتب مع حياة الكاتب المادية، ما يجعل أدب الكاتب يكتسب بُعدا جديدا ملموسا يعمّق الأثر القديم ويحفر الكلمات في صخر التجربة والذاكرة. ولا يغدو قبو المنزل العاري تماما مجرد فضاء بارد تضمه جدران متقشرة الطلاء، بل يذكّر الزائرين بأجواء قصة «القط الأسود» وباقي قصص پو المليئة بالرعب القاتم الثقيل.

ليس هذا إلا مثال على وجه من وجوه العلاقة بين الأدب والسياحة، وهي علاقة تأخذ تبدّيات شتى، فمنها ما هو متعلق بالشكل الأدبي، حيث يعتبر الأدب الرحلات مثالا صريحا على جنس أدبي قد يقوم على السياحة في الأرض. ومن تلك التبديات أيضا مجموعة ممارسات وأنشطة متصلة بالمجال الأدبي وتحمل طابعا سياحيا كالمهرجانات الأدبية والإقامات والمعتزلات الكتابية. فالمهرجانات الأدبية تحتفي بالتميز الأدبي وتروج برامجها للتنوع والتواصل الثقافي والتفاعل بين الكتّاب والقرّاء والناشرين، ومع ذلك فإنها غالبا ما تكون ضمن برنامج سياحي، أما معتزلات الكتابية فما تفتأ تستثمر الجانب السياحي في الترويج لذاتها. أما التجلي الأخير والأبرز لعلاقة بين الأدب والسياحة فيتمثل في المدن والأحياء والمتاحف والمعالم التي يقصدها السياح لما لها من اعتبار أدبي، ومن ثَمّ فإنها تهيَّأ لهذا الاستخدام المحدد.

يشير مفهوم «المدن الأدبية» إلى مدن ارتبطت ارتباطا وثيقا بأسماء كتّاب عاشوا فيها وكتبوا مؤلفاتهم، مثل ارتباط مدينة Stratford-upon-Avon بالشاعر والمسرحي البريطاني وليم شكسبير، ومدينة باريس بالروائي والمسرحي ڤيكتور هوغو، ومدينة براغ بالروائي التشيكي فرانتس كافكا. تستمد هذه المدن جزءا من هويتها الثقافية من صلتها بأولئك الأدباء وتستثمر تلك الصلة على نطاق سياحي اقتصادي. يدعم هذا الاستثمار توجه أممي للاعتراف بقيمة المدن أدبيا، ولعل إطلاق منظمة اليونسكو برنامج «شبكة المدن الإبداعية» في ٢٠٠٤م في سبع مجالات أبرزها الأدب مثال على هذا التوجه. ولكن مفهوم المدن الأدبية لا يقتصر على المدن الحقيقية فحسب، بل إنه يشمل المدن المتخيلة التي يشيدها الروائيون بالكلمات، وأبرز ذلك النوع من المدن مقاطعة يوكناباتاوا المتخيلة التي أنشاها الكاتب الأمريكي وليم فوكنر ووضع أحداث جلّ رواياته فيها، وهي مدينة نالت من الصيت ما لم تنله بعض المدن الحقيقية، حتى إن الناشر عمد إلى طباعة خريطة تقريبية للمقاطعة كي يرفقها بالروايات اللاحقة التي تقع أحداثها في يوكناباتاوا.

أما المكتبات ومتاجر الكتب فعلاقتها بالسياحة أوضح وأكثر تحديدا، إذ تقوم سياحة متاجر الكتب على زيارة الأماكن التي ارتبطت بأسماء مؤلفين وكتب معينة. وبعض تلك المتاجر استحق فعلا مكانة مرموقة بوصفه مركزا للنشاط الأدبي والاجتماعي على السواء، مثل متجر City Lights الواقع في سان فرانسيسكو، والذي يضم دار نشر أيضا. لقد واظب هذا المتجر منذ تأسيسه على إشعال جذوة الحراك الأدبي والاجتماعي والسياسي، مستهلا ذلك الحراك بنشر ديوان «عواء» للشاعر الأمريكي آلن غينسبيرغ في عام ١٩٥٦م. وكان فاعلا ومؤثرا في المجتمع الأدبي الأمريكي بالكتب التي ينشرها والأمسيات التي يقيمها، وتخرجت من بوابته أجيالٌ من الأصوات الأدبية الحيوية في المشهد الأمريكي.

ثم هناك المباني التي أمست معالم سياحية بسبب ارتباطها بكتّاب، وهي عصية على الحصر. لكن من أشهرها منزل آن فرانك في أمستردام، حيث اختبأت الكاتبة وعائلتها في ملحق سري مدة سنتين هربا من محرقة النازية، وهو يجتذب اليوم ما ينيف على مليون زائر سنويا. إضافة إلى ذلك تجتذب قلعة بران في رومانيا، نتيجة كونها الموطن الخيالي لدراكولا، مئات الآلاف من السياح الذي يرتادونها على مدار العام. أما في بريطانيا، وهي البلد الرائد في السياحة الأدبية، فيقصد السياح ممشى بطول تسعة كيلومترات في مقاطعة لانكشاير، سُمّي باسم المؤلف البريطاني ج. ر. ر. تولكين، الذي ألهمه الممشى والمشهد الذي يروى أنه يراه حينها لكتابة روايته الشهيرة «سيّد الخواتم» التي اقتُبست منها ثلاثية سينمائية أكثر شهرة. يضاف إلى هذه المباني متاحف بُنيت خصيصا لتعرض متعلقات الأدباء الشخصية وممتلكاتهم وصورهم وأوراقهم، إضافة إلى معلومات عنهم. ومن الأمثلة على هذه المتاحف متحف الكتّاب الأمريكان الذي افتتح في تشيكاغو عام ٢٠١٧م، ومتحف الكتّاب في إدنبره الذي يضم ثلاثة من الكتّاب الاستكلنديين الروّاد، ومنهم روبرت لويس ستيفنسن مؤلف روايتي «جزيرة الكنز» و «الدكتور جيكل والسيد هايد» الشهيرتين.

شهدت العقود الأخيرة تزايدا في نشاط السياحة الأدبية رافقه تزايدٌ في تسويق الوجهات والتجارب ذات الصبغة الأدبية، حتى إن هناك ما أصبح يوصف بالحجّ الأدبي. لقد شاعت زيارة المواقع المتصلة بالأدباء ذائعي الصيت وأعمالهم، كمنازل الكتّاب أو مساقط رؤوسهم أو قبورهم، والأماكن التي صوروها في كتبهم، حتى شملت الأدلة السياحية مواقع ومزارات أدبية، وأشارت الخرائط وإشارات الطرق إلى معالم أدبية أصبحت زيارتها جزءا أصيلا من تجربة السائح. ومع التقدم التقني غدا ممكنا القيام بجولات سياحية افتراضية يستطيع المستخدمون من خلالها الاستعانة بتطبيقات إلكترونية تشير إلى المواقع المذكورة في الكتب الأدبية ومعلومات عن كل موقع، وهو ما يغيّر التجربة القرائية تغييرا جذريا.

ولئن كان الأدب في صورة من صوره سياحة في ميادين الفكر والثقافة والجمال، فإن علاقته المادية بالسياحة كثفت تلك الصورة تكثيفا غير مسبوق، حتى ظهرت مجموعة من الدراسات التي تركز على العلاقة بين الأدب والسياحة، وهي في طريقها إلى تشكيل حقل من الدراسات الأدبية التي تتبّع لا ماديّة الأدب وهي تتجسد في أماكن ومعالم وأشياء مادية. ولذلك تعنى تلك الدراسات بالعلاقة المتبادلة بين المجالين، فبالقدر الذي أثرت فيه الأماكن على الأدب، أسهم الأدب في خلق الأماكن وإبرازها، الأمر الذي بدوره ضمن امتدادا للقراءة وإطالة لحياة النص الأدبي وكاتبه.

يشكّل الأدب إدراكَ القراء عن كثير من الأماكن والمشاهد الطبيعية التي ربما لن يتنسى لهم قط زيارتها،  بل إن تصور بعض المدن، مثل قاهرة نجيب محفوظ ومقاطعة يوركشاير للأخوات برونتي، قد غدا أحيانا غير ممكن من دون استحضار التصورات الأدبية التي كُوّنت حين القراءة عنها في صفحات الروايات. وهنا يُحمد للسياحة الأدبية سعيُها إلى جمع الأماكن المتخيلة بالتجارب الواقعية للسياح والزوار، ولذلك غالبا ما تنطوي السياحة الأدبية القائمة على زيارة للأماكن والمعالم الأدبية على إجراء مقارنات، حيث يقارن السائح ما يراه ماثلا أمام عينيه بما قد تصوره القارئ في مخيلته وتوقّعه، وعلى هذا الأساس يقاس نجاح مقدمي الخدمات في القطاع السياحي، كالمتاحف والمرشدين والفنادق، بمدى إضفاء قدر من الأصالة الثقافية والأدبية على تجربة الفرد مع المكان يتجاوز الإدراك الذهني الذي اكتسبه بالقراءة وحدها. وهذا يقود إلى التذكير بأن التجربة السياحية أيضا خاضعة للتدخل الخارحي، حيث نظرة السائح وإحساسه بالأصالة موجهة لا عفوية، فالغالب أن المزار السياحي، معلما كان أو شيئا، محفوفٌ بمجموعة من النصوص والعلامات التي من شأنها التأثير على الكيفية التي يرى بها السائح ما يرى، كالإعلانات المقروءة والمرئية والبروشورات ونحوها. هذه النصوص والعلامات توجّه التجربة السياحية وتؤطر المعلم الأدبي بأن تضعه في سياق آخر يغلب أنه مختلف ولو قليلا عن السياق الذي قرأ السياح فيه عنه وشكّلوا تصوراتهم الأولى عنه.

أخيرا، على رغم ما يتسم به النشاط السياحي في مجمله من خفّة واضحة، وعلى رغم المزالق الاستهلاكية التي يمكن أن تنزلق إليها الوجهات الأدبية بوصفها منتجات قابلة للتسليع، فإن السياحة الأدبية تحديدا توفّر فرصة حقيقية للتعلم والاستكشاف وإشباع الفضول، مشكّلةً صناعةً إبداعيةً مكتملة الأركان. وهي علاوة على ذلك تعزز قيما محببة مثل قيم المثاقفة والتواصل والتسامح. كما أنها تساعد الأدب على أداء دوره المهم في تكوين ذاكرة ثقافية مشتركة وصيانة إرث إنساني يتجاوز حدود الدول واللغات والأزمنة، وتعزز قدرته على جمع الناس على اختلاف ثقافاتهم، وهو ما يدعو مؤسسات التراث إلى أن تقوم على بناء مواقع السياحة الأدبية وإدارتها وصونها من أجل استثمار القيم التي تحملها الوجهات الأدبية التي لم تعد توجد حصرا في صفحات الكتب، ولكنها باتت جزءا حقيقيا من تجارب الناس وحياتهم.

اكتب تعليقًا