الرغبة والاستهلاك: لدونة الجسد والبلاستيك في لوحات جاسم الضامن

إن الفن التصويري، إذا ما وضعناه في مقابل الفن التجريدي، شكل من أشكال الفن الحديث يحافظ على صلات أو إشارات قوية إلى العالم الواقعي بعامة وبجسد الإنسان بخاصة، ويستثمر ملامح من العالم الواقعي بوصفها موضوعا للفن. تقوم التعبيرية التصويرية، وهي فرع من الفن التعبيري، على إعادة تمثيل الجسد الإنساني باعتباره العنصر المركزي في العمل الفني. وغالبا ما أشارت الأشكال البشرية المشوهة فيها إلى استخدام تحريف الشكل انعكاسا للاضطراب الداخلي الذي يسم هذه الشخصيات والحالات السيكولوجية التي تعتريها، بالطبع من دون إغفال السياقات الاجتماعية التي توجد فيها.

حوى المعرض الشخصي الذي أقيم للفنان جاسم الضامن، بعنوان «منافذ الداخل»، في صالة مؤسسة الفن النقي في الرياض خلال المدة من ٢٢ نوڤمبر إلى ١٤ ديسمبر ٢٠٢٣م، مجموعة من اللوحات التعبيرية التصويرية التي يواصل فيها الضامن اهتمامه بالوسيط التعبيري وموضوعاته. ويمكن القول إن لوحات الضامن المعروضة قد تخلت عموما عن الاستخدام الشجاع للّون وعن الضربات الفرشاة الجريئة التي عادة ما ترتبط بالتعبيرية التصويرية، إذ استخدم الضامن ألوانا ناعمة منسابة في حركتها واندماجها، وقلّما حوت خطوطا نافرة أو زوايا حادة تعبر عن انعطافات تفكيرية صارخة أو فجائية. ولهذا جاء معظم اللوحات هادئا ومريحا للنظر ومشجعا على التأمل المطمئن. ومع ذلك، فإن من بين اللوحات المعروضة تبرز بضع لوحات تشكّل في مجموعها انحرافا بسيطا غير أنه في غاية الأهمية. وهذا الانحراف لا يغير من علاقة المتلقي إلى الأعمال الذي تشتمل عليه فحسب، بل يوفر بعدا إضافيا لباقي الأعمال المعروضة يؤثر على طريقة النظر إليها وتلقّيها.

لقد احتوت هذه اللوحات على عناصر مادية دخيلة من شأنها أن تخدم بضعة أغراض رئيسة، فهي أولا تزعزع مركزية الجسد الإنساني في العمل الفني. فكما قلت آنفا يحتل الجسد، أو الشكل البشري عموما، موقعا مركزيا في التعبيرية التصويرية، ومنها أعمال الضامن، بحيث تعزز عناصر العمل الأخرى هذا الموقع. وثانيا تمنح العناصر المادية العمل الفني أبعادا دلالية إضافية، بعد أن سعت إلى تقويض مركزية البشري، فكان أن وضعت الإنسان في سياق اجتماعي واقتصادي كان مفقودا تقريبا في باقي لوحات المعرض. أما الغرض الثالث، وهو مرتبط بالغرضين السابقين، فيكمن في أن تلك العناصر المادية تكثف استخدام الجسد البشري وسيلة لاستكشاف موضوعات ملحّة وطارئة في الوضع الإنساني، مثل الاغتراب والعزلة ونحوهما، بحيث يصبح الشكل التعبيري وسيلة لعكس القلق والإحباط الذي يسم واقع الإنسان.

ولا تخلو لوحات الضامن عينها من نبرة كاريكاتورية تنبع أولا من المواقف التي توضع فيها شخصيات اللوحات، وبعضها متوجه في تركيزه إلى المُشاهِد، الأمر الذي يخلق ردة فعل تتعدى إطار اللوحة. وثانيا تنبع النبرة الكاريكاتورية من شخصية العناصر المضمنة في تكوين اللوحات، كمسدس الماء البلاستيكي وباقة الورد المكونة من علب الماء الفارغة والبالونات ودمى البط وخلافها. وفي حين أن الأشخاص في معظم اللوحات يظهرون حاملين تلك الأدوات أو مستخدمين لها، فإنهم يبدون في لوحات أخرى أهدافا مستسلمة لإصابات وشيكة ستنالهم منها. ولكن هذه النبرة الكاريكاتورية لا تتوقف عند جانب اللعب من العلاقة التي يجد الأشخاص أنفسهم فيها، إنْ مرسِلين أو مستقبِلين، بل يرافقها انطباع حسي وشهواني واضح يتأتى من الانحناءات والالتواءات التي تسمح بها لدونة الجسد في وضعياته المتهتكة التي تعرضها اللوحات إما أفقيا أو قُطريا، والتي يبدو فيها الجسد عائما ومحمولا على سحابة غير مرئية من الرغبة الدنيوية.

إذن، تتجاور البرودة البلاستيكية، بكل ما يمكن أن تشير إليه في سياقات اقتصادية معاصرة، والدفء الحسي المكنون في الجسد البشري، في لوحات الضامن التعبيرية التصويرية بألوانها الهادئة وتكويناتها اللي تَعِد في البدء بموضوعات مريحة لا إشكالية، ولكنها بقليل من التأمل تكشف عن شبكة معقدة من العلاقات المشيدة بين المتلقي واللوحة من جهة، وبين أشخاص اللوحات وسياقهم من جهة أخرى. ولكن هذا التجاور قائم على شبه يؤسس له الفنان بين لدونة الجسد ولدونة البلاستيك، وهو شبه يجد تعبيرا له في العلاقة بين الرغبة والاستهلاك.


هذه التدوينة هي الأولى من سلسلة «تحديق» وهي عبارة عن تدوينات قصيرة من حوالي ٥٠٠ كلمة عن أعمال فنية لفنانين معاصرين من السعودية

اكتب تعليقًا